سورة محمد - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (محمد)


        


{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} كلامٌ مستأنفٌ أي أمرُهم طاعةٌ الخ. أو طاعةٌ وقولٌ معروفٌ خيرٌ لهم، أو حكايةٌ لقولِهم، ويؤيدُه قراءةُ أُبي: يقولونَ طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أي أمرُنا ذلكَ {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} أَسندَ العزمَ وهو الجِدُّ إلى الأمرِ وهو لأصحابِه مجازاً كما في قولِه تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الامور} وعاملُ الظرفِ محذوفٌ أي خالَفُوا وتخلَّفُوا وقيلَ ناقضُوا وقيل كرِهُوا وقيلَ هُو قوله تعالى: {فَلَوْ صَدَقُواْ الله} على طريقةِ قولِك إذا حضرني طعامٌ فلو جئتني لأطعمتُكَ أي فلو صدقُوه تعالى فيما قالُوا من الكلامِ المنبىءِ عن الحرصِ على الجهادِ بالجري على موجبهِ. {لَكَانَ} أي الصدقُ {خَيْراً لَّهُمْ} وفيه دلالةٌ على اشتراكِ الكلِّ فيما حُكِيَ عنهم من قولِه تعالى: {لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ} وقيل: فلو صدقُوه في الإيمانِ وواطأتْ قلوبُهم في ذلك ألسنتَهُم، وأيَّاً ما كان فالمرادُ بهم الذين في قلوبِهم مرضٌ وهم المخاطبون بقولِه تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} إلخ بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ التقريعِ أي هل يُتوقعُ منكم {إِن تَوَلَّيْتُمْ} أمورَ الناسِ وتأمَّرتُم عليهم {أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} تناحراً على المُلك وتهالُكاً على الدُّنيا فإن من شاهدَ أحوالَكم الدالَّةَ على الضعفِ في الدِّينِ والحرصِ على الدُّنيا حينَ أُمرتُم بالجهادِ الذي هو عبارةٌ عن إحرازِ كلِّ خيرٍ وصلاحٍ ودفعِ كلِّ شرَ وفسادٍ وأنتم مأمورون شأنُكم الطاعةُ والقولُ المعروفُ يتوقعُ منكم إذا أطلقتْ أعِنّتُكم وصرتُم آمرين ما ذكر من الإفسادِ وقطعِ الأرحامِ. وقيل: إن أعرضتُم عن الإسلامِ أنْ ترجعوا إلى ما كنتُم عليه في الجاهليةِ من الإفسادِ في الأرضِ بالتغاورِ والتناهبِ وقطعِ الأرحامِ بمقاتلةِ بعضِ الأقاربِ بعضاً ووأدِ البناتِ، وفيه أن الواقعَ في حيزِ الشرطِ في مثلِ هذا المقامِ لا بد أن تكون محذوريتُه باعتبارِ ما يستتبعُه من المفاسدِ لا باعتبارِ ذاتِه، ولا ريبَ في أنَّ الإعراضَ عن الإسلامِ رأسُ كلِّ شرَ وفسادٍ فحقُّه أنْ يجعلَ عمدةً في التوبيخِ لا وسيلةً للتوبيخِ بما دونَهُ من المفاسدِ. وقرئ: {وُلِّيتُم} على البناءِ للمفعولِ أي جُعلتْم ولاةً، وقرئ: {تُولِّيتُم} أي تولاَّكُم ولاةُ جورٍ خرجتُم معهُم وساعدتمُوهم في الإفسادِ وقطيعةِ الرحمِ. وقرئ: {وتَقطَّعُوا} من التقطُّعِ بحذفِ إحدى التاءينِ، فانتصابُ أرحامَكم حينئذٍ على نزعِ الجارِّ أي في أرحامِكم. وقرئ: {وتَقْطَعُوا} منَ القطعِ. وإلحاقُ الضميرِ بعسَى لغةُ أهلِ الحجازِ، وأمَّا بنُو تميمٍ فيقولونَ عسى أنْ تفعلَ وعسى أنْ تفعلُوا.


{أولئك} إشارةٌ إلى المخاطبينَ بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ ذكرَ هَنَاتِهم أوجبَ إسقاطَهُم عن رُتبةِ الخطابِ وحكايةَ أحوالِهم الفظيعةِ لغيرِهم، وهُو مبتدأٌ خبُرُه {الذين لَعَنَهُمُ الله} أيْ أبعدهُم من رحمتِه {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماعِ الحقِّ لتصامِّهم عنْهُ بسوءِ اختيارِهم. {وأعمى أبصارهم} لتعامِيهم عمَّا يشاهدونَهُ من الآياتِ المنصوبةِ في الأنفسِ والآفاق.
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} أيْ أَلاَ يلاحظونَهُ ولاَ يتصفحونَهُ وما فيهِ من المواعظِ والزواجرِ حتَّى لا يقعُوا فيَما وقعُوا فيهِ من الموبقاتِ {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فلا يكادُ يصلُ إليها ذكرٌ أصلاً. وأم منقطعةٌ وما فيها من معنى بلْ للانتقالِ من التوبيخِ بعدمِ التدبرِ إلى التوبيخِ بكونِ قلوبهم مقفلةً لا تقبلُ التدبرَ والتفكرَ. والهمزةُ للتقريرِ، وتنكيرُ القلوبِ إمَّا لتهويلِ حالِها وتفظيعِ شأنِها بإبهامِ أمرِها في القساوةِ والجهالةِ كأنَّه قيلَ على قلوبٍ منكَرةٍ لا يعرفُ حالُها ولا يُقادرُ قدرُها في القساوةِ وإما لأنَّ المرادَ بها قلوبُ بعضٍ منْهم وهم المنافقونَ. وإضافةُ الأقفالِ إليها للدلالةِ على أنَّها أقفالٌ مخصوصةٌ بها مناسبةٌ لها غيرُ مجانسةٍ لسائرِ الأقفالِ المعهودةِ. وقرئ: {أقفالُها} و{إِقفالُها} على المصدر.
{إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم} أي رجعُوا إلى ما كانُوا عليهِ من الكفرِ وهم المنافقونَ الذين وُصفوا فيما سلفَ بمرضِ القلوبِ وغيرهِ من قبائحِ الأفعالِ والأحوالِ فإنَّهم قد كفرُوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} بالدلائلِ الظاهرةِ والمعجزاتِ القاهرةِ، وقيل هم اليهودُ وقيل أهلُ الكتابينِ جميعاً كفرُوا به عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ بعدما وجدُوا نعتَهُ في كتابِهم وعرفُوا أنه المبعوثُ بذلكَ. وقولُه تعالى: {الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وقعتْ خبراً لإنَّ أي سهَّلَ لهم ركوبَ العظائمِ من السَّولِ وهو الاسترخاءِ، وقيلَ من السُّوْلِ المخففِ من السُّؤلِ لاستمرارِ القلبِ فمعنى سوَّلَ له أمراً حينئذٍ أوقعه في أمنيته فإن السُّؤل الأمنية. وقرئ: {سُوِّل} مبنياً للمفعولِ على حذفِ المضافِ أن كيدَ الشيطانِ. {وأملى لَهُمْ} ومَدَّ لهم في الأمانِيِّ والآمالِ، وقيلَ أمهلهُم الله تعالى ولم يُعاجلْهم بالعقوبةِ. وقرئ: {وأُمْلِي لَهُم} على صيغةِ المتكلمِ فالمعنى أي الشيطانُ يُغويهم وأنا أُنْظِرُهم فالواوُ للحالِ أو للاستئنافِ. وقرئ: {أُمْلِىَ لهُم} على البناءِ للمفعولِ أي أُمْهِلُوا ومُدَّ في عمرِهم.
{ذلك} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من ارتدادِهم لا إلى الإملاءِ كما نُقلَ عن الواحديِّ ولا إلى التسويلِ كما قيل لأنَّ شيئاً منهما ليس مُسبباً عن القولِ الآتي وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى: {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {قَالُواْ} يعني المنافقينَ المذكورينَ لا اليهودَ الكافرينَ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما وجدُوا نعتَهُ في التوارةِ كما قيل فإن كفرَهم به ليسَ بسببِ هذا القولِ ولو فُرض صدورُه عنهم سواءٌ كان المقولُ لهم المنافقينَ أو المشركينَ على رأي القائلِ، بل من حينِ بعثتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} أي لليهودِ الكارهينَ لنزولِ القرآنِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مع علمِهم بأنَّه من عندِ الله تعالى حسداً وطمعاً في نزولِه عليهم لا للمشركينَ كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى: {سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر} عبارةٌ قطعاً عما حُكِيَ عنُهم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} وهم بنُو قريظةَ والنَّضيرِ الذين كانوا يوالونَهم ويوادُّونَهُم وأرادُوا بالبعضِ الذي أشارُوا إلى عدمِ إطاعتهم فيه إظهارَ كُفرِهم وإعلان أمرِهم بالفعلِ قبل قتالِهم وإخراجِهم من ديارِهم فإنَّهم كانوا يأبَون ذلك قبل مساسِ الحاجةِ الضروريةِ الداعيةِ إليه لِما كان لهم في إظهارِ الإيمانِ من المنافعِ الدنيويةِ، وإنما كانوا يقولون لهم ما يقولون سِرَّاً كما يُعربُ عنه قولُه تعالى: {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي إخفاءَهُم لما يقولونَهُ لليهودِ. وقرئ: {أَسْرَارَهُم} أي جميعَ أسرارِهم التي من جُملتها قولُهم هذا، والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لما قبله متضمنٌ للإفشاءِ في الدنيا والتعذيبِ في الآخرةِ.


الفاءُ في قولِه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها. وكيفَ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ هو العاملُ في الظرفِ كأنَّه قيلَ يفعلون في حياتِهم ما يفعلون من الحيلِ، فكيفَ يفعلونَ إذا توفَّتُهم الملائكةُ، وقيلَ مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي فكيفَ حالُهم أو حياتُهم إذا توفَّتُهم الخ. وقرئ: {توفَّاهُم} على أنَّه إما ماضٍ أو مضارعٌ قد حُذفَ إحدى تاءيهِ. {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم} حالٌ من فاعلِ توفَّتهم أو من مفعولِه، وهو تصويرٌ لتوفّيهم على أهولِ الوجوهِ وأفظعها. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنَهُمَا لا يُتوفَّى أحدٌ على معصيةٍ إلا يضربُ الملائكةُ وجهَهُ ودبُره. {ذلك} التَّوفِّي الهائلُ {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله} من الكفرِ والمعاصِي {وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي ما يرضاهُ من الإيمانِ والطاعةِ حيث كفُروا بعد الإيمانِ وخرجُوا عن الطاعةِ بما صنعُوا من المعاملةِ مع اليهودِ {فَأَحْبَطَ} لأجلِ ذلكَ {أعمالهم} التي عملوها حالَ إيمانِهم من الطاعاتِ أو بعد ذلك من أعمال البرِّ التي لو عملُوها حالَ الإيمانِ لا نتفعُوا بها.
{أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم المنافقون الذين فُصِّلتْ أحوالُهم الشنيعةُ، وُصفُوا بوصفِهم السابقِ لكونِه مداراً لِما نُعِيَ عليهم بقولِه تعالى: {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم} فأمْ منقطعةٌ وأنْ مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ ولنْ بما في حيزِها خبرُها. والأضغانُ جمعُ ضَغنِ وهو الحقدُ، أي بل أحسبَ الذين في قلوبِهم حقدٌ وعداوةٌ للمؤمنين أنه لنْ يخرجَ الله أحقادَهم ولن يُبرزَها لرسولِه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنينَ فتبقى أمورُهم مستورةً والمعنى أنَّ ذلك مما لا يكادُ يدخلُ تحتَ الاحتمالِ.

1 | 2 | 3 | 4